هذه الرسالة تفيد أنك غير مسجل .

و يسعدنا كثيرا انضمامك لنا ...

للتسجيل اضغط هـنـا

 
منتدى الهندسة الكهربية



الإهداءات

العودة   منتدى الهندسة الكهربية > الأقسام العامه > استراحة المهندسين

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-03-2011, 09:30 AM
الصورة الرمزية م / على مدكور
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2011
الدولة: مصر
المشاركات: 796
معدل تقييم المستوى: 14
م / على مدكور is on a distinguished road
افتراضي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

المقاصد العامة للشريعة الإسلامية



مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الأمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وبعد.
فإن هذه الشريعة الإسلامية المطهرة قد أنزلها الله سبحانه وتعالى لأهداف عظمى وغايات شريفة كبرى وهذه الأهداف والغايات منها ما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى ومنها ما يتعلق بالإنسان فرداً وجماعة، ولما كان كثير من طلاب العلم قد يجهل هذه الأهداف فإنه يقع في أخطاء كثيرة من حيث الفهم والاستنباط والدعوة، بل قد يستخدم النصوص في غير مواضعها ويعمل بها في غير أماكنها.
ولما كانت الأمة بحمد الله متوجهة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ولكن قد يشكل على بعضهم ما يقدم ويؤخر في مسائل التطبيق فإننا قد كتبنا بحمد الله هذه الرسالة المختصرة لبيان أهداف الشريعة وغاياتها حتى تتضح الصورة أمام الجميع ونعلم جميعا الصراط الذي يجب علينا اتباعه في الدعوة والعمل والتطبيق والله نسأل أن ينفع بهذه الرسالة إنه هو السميع العليم.

عبد الرحمن عبد الخالق
الكويت 17 من ذي الحجة سنة 1404هـ
الموافق 14/8/1984م

الشريعة حكيمة:
الشريعة الإسلامية مبنية بناء متينا حكيماً لأنها تنزيل العزيز الحميد. ولأنها أثر من آثار الحكيم سبحانه وتعالى وكل صغير وكبير في هذه الشريعة موضوع في موضعه تماماً. فكما أن خلق الله سبحانه وتعالى لا تفاوت فيه فكذلك أمره سبحانه وتعالى لا تفاوت فيه فكل أوامره عدل. وكل أمره قد تنزل على وفق العلم التام والحكمة البالغة {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك:14)، فالذي خلق هذا الإنسان هو الذي أنزل له ما يصلحه في هذه الدنيا، وما يناسبه تماما.
وكلما تعرفنا على طريقة بناء هذه الشريعة كلما ازددنا إيمانا بعظمة الخالق وحكمة أوامره. وإحاطة علمه، وعظيم خبرته. قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة:50)، وهذا في المحصلة يدعونا إلى التسليم لأمره سبحانه وتعالى، والإذعان له، واليقين أنه سبحانه وتعالى قد وضع كل أمر في نصابه، وأنه لا يظلم أحداً ولا يجور في حكمه، ولا ينسى، ولا يميل ولا يحيف.
غايات الخالق سبحانه وتعالى من الخلق:
وحتى نتعرف على طريقة بناء هذه الشريعة الحكيمة يلزمنا أولا أن نعرف غايات الخالق من الخلق، وذلك أن هذه الشريعة إنما جاءت محققة لهذه الغايات فالشريعة هي الصراط والطريق الموصل إلى هذه الغايات.
وقد عرفنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56)، وقال أيضا عن الملائكة، {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء:26-27). فالملائكة والإنس والجن ما خلقوا جميعا إلا لعبادة الإله الواحد الأحد سبحانه وتعالى والسماوات والأرض ما خلقت ولا نصبت إلا لتحقيق هذه الغاية قال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (لقمان:20).
فكان تسخير الله للسماوات والأرض من أجل الإنسان ليقوم هذا الإنسان بعبادة خالقه وربه ومولاه سبحانه وتعالى.
لا نحيط علما بالحكمة الإلهية:
وبالرغم من علمنا بهذه الغاية الكبرى وهذه الحقيقة الكلية العامة إلا أننا لا نستطيع أن ندرك على التفصيل الحكمة الإلهية من خلق كل مخلوق. ومن تنظيم الأمر على هذا النحو، ولماذا كان هذا ولم يكن غيره؟ وذلك أن إدراك الحكمة الإلهية كما هي عليه في الحقيقة أمر مستحيل فأين عقل المخلوق واستيعابه، وفهمه، من حكمة الخالق وسعة علمه، ولذلك نظل مهما أوتينا من قوة العلم ورجاحة العقل وسعة الإدراك.. نظل قاصرين أن نفهم الحكمة الإلهية على وجهها الأكمل وأن نحيط علما بمشيئة الله وأمره ونهيه، وكثيرا ما أرشدنا الله إلى ذلك حيث يقول {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء:85) ويقول أيضا سبحانه {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة:216) ولذلك وجب التسليم لأمر الله ومشيئته واعتقاد أن حكمته فوق كل حكمة وأن علمه فوق كل علم وأنه سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ولا يعني هذا بالطبع أن ندرك بعض حكم الله سبحانه وتعالى في الخلق والتشريع والأمر والنهي بل الله جل وعلا قد بين الغايات الكلية والمقاصد العامة لخلقه وتشريعه، وقد بين أيضا سبحانه وتعالى بوجه عام الحكمة من وراء معظم التشريعات وذلك ليزداد المؤمنون إيمانا ويصلوا إلى اليقين بأن الرب العظيم هو المتصف بالعلم المحيط، والحكمة البالغة.
ونستطيع أن نجمل المقاصد العامة للشريعة الإسلامية المطهرة فيما يأتي:
أولاً: التعبد غاية الشريعة:
وذلك أن الله لم يخلق الخلق إلا ليعبد ويعرف سبحانه بأسمائه وصفائه. فالله جل وعلا وإن كان هو المحمود لذاته، والذي لا يحيط أحد علما به إلا هو، ولا يثني أحد عليه كما أثنى هو سبحانه على نفسه، فإنه مع ذلك خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ونعني بالخلق كل مخلوق سواء من الملائكة أو من الجن أو من الإنس أو الجمادات أو غير ذلك. قال تعالى في شأن الملائكة وأنهم عباده وليسوا أولاده كما زعم المشركون {وقالوا اتخذ الله ولدا بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء:26) الآية فأخبر سبحانه أنهم عباده وأنهم ليسوا أولاده. وقال في الجن والإنس والسبب في خلقهم {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات:56).
ولا يخفى أن الله سبحانه ليس بحاجة إلى هذه العبادة لأنه المحمود بذاته الذي حمد نفسه وأثنى عليها ولا يستطيع أحد أن يقدر قدره ويعلم مقدار عظمته وسلطانه وعلو شأنه إلا الرب سبحانه وتعالى. ولا شك أنه بذلك الغني عن كل خلقه الذي لا تنفعه عبادتهم، ولا تضره معصيتهم كما قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: [يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا] (رواه مسلم).
ولكنه سبحانه وتعالى يحب أن يعبد وأن يقدس وأن يمدح ويثيب على ذلك، وهو كذلك يكره الكفر ويمقت الكافرين جل وعلا. والمهم هنا أن من مقاصد التشريع الأولى العبادة بل العبادة هي المقصد الأسمى التي من أجلها خلق الله الملائكة والجن والإنس.
ولذلك كان من فروع هذه الغاية تشريع أوامر قد لا تبلغها عقول المكلفين وذلك لاختبار طاعتهم وتحقيق عبوديتهم. وذلك أن العبادة هي الطاعة المطلقة فيما عقل معناه من المكلف وفيها لم يعقل معناه أيضا مع كمال الذل والخضوع وحب الآمر. وهذا يفسر لنا كثيرا من أوامر الشريعة التي لا نص على حكمه مشروعيتها، ولا استنباط متفقا عليه لهذه الحكمة كتقبيل الحجر الأسود، والطواف بالبيت ورمي الجمار، والسعي، وإعداد الركعات ونحو ذلك من الأوامر والأحكام.
ثانياً: إنشاء المسلم الصالح:
القصد العام الثاني من مقاصد الشريعة هو إنشاء الإنسان الصالح، والإنسان الصالح هو المسلم الصالح، والمؤمن التقي والإسلام والإيمان هنا بمعنى واحد وإذا استقرأنا نصوص القرآن والسنة في هذا الصدد تحصل لنا مواصفات هذا الإنسان وأنه العليم بالله، التقي البار، الخائف من ربه كما قال تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (الأنفال:2،3) وقوله تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات:85) وقوله تعالى {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة:177).
فالذين وصفتهم هذه الآيات هم المؤمنون الذين أنزلت الشريعة من أجل بنائهم وإنشائهم، وأرسل الرسول من أجل تربيتهم وتزكيتهم قال تعالى {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2).
وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم عمره الرسالي متعهداً أصحابه مربيا لهم مزكيا لهم لنفوسهم وذلك بتعليمهم كتاب الله المشتمل على قواعد التربية وأصول الأخلاق، ومقومات تزكية النفوس، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثال بنفسه ليكون أسوة وقدوة فكانت سنته مطبقة وشارحة للقرآن.
والخلاصة أن هدف الشريعة هو إصلاح النفوس وتنشئة الإنسان الصالح طاهر القلب نقي الثوب الشجاع الأمين الصادق البار الوفي، المخلص العادل الطيب سليم النية والطوية البعيد عن كل الأدناس والأرجاس الحسية والمعنوية، وقد جاءت الشريعة محققة لهذه الغاية على أتم الوجوه وأكمل الصور.
ومن قواعد الشريعة في هذا الصدد ما يلي:
أ) مراعاة الفطرية البشرية:
أول ما نلمسه من التشريع الإلهي لتحقيق غاية المؤمن الصالح أن الشريعة راعت الفطرة البشرية فلم تصادمها بل شرعت ما يشبعها بأحسن الطرق وأقوم الوسائل فقد فطر الإنسان محبا لنفسه مضطرا للطعام والشراب والكساء والسكن، والتربية، قد ركبت فيه غريزته الجنسية وميله إلى الجنس الآخر. ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بإباحة الملكية الفردية إلى أبعد الحدود مع وجوب الابتعاد عن الظلم والغش والكسب الخبيث وأباحت للإنسان أكل الطيبات ولم تحرم عليه إلا الخبائث المستقذرة طعما وأثراً في النفوس والبدن، وأباحت الزواج بأربع من الحرائر وشرعت الطلاق لتعطي الفرصة للعلاج أو الفراق. وأباحت كل زينة طيبة وكل متاع صالح، ولم تحرم إلا ما زادت مضاره على منافعه باتفاق كافة العقلاء المنصفين.. وشرح هذا يطول والمهم التنبيه أن الشريعة الحكيمة راعت كل متطلبات الإنسان الفطرية وسلكت في سبيل إشباعها أقوم السبل وأحسن الطرق {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك:14).
ب) العدل فريضة، والظلم حرام:
ولتقويم النفس جعلت الشريعة الحكيمة العدل فريضة دائمة وحرمت الظلم بكل أنواعه وأشكاله وفي كل أحواله، قال تعالى {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:135).
وقال تعالى أيضا {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله} (المائدة:2).
وقال الله في الحديث القدسي: [يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا] وقد وضع الله سبحانه وتعالى قوانين العدل وموازين القسط في كل علاقة بين الإنسان والإنسان ولم يترك هذا للاجتهاد الشخصي بل أقام الحقوق والواجبات في كل عقد شرعي مما يحتاجه الناس في حياتهم كعقود البيع والإجارة والمزارعة والزواج والطلاق والبيعة، وغير ذلك فالعقود الشرعية كلها قائمة على تحقيق هذا المطلب الشرعي (العدل) ولذلك جعل الله العدل غاية الرسالات فقال سبحانه وتعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25).
ومن هذا السياق نعلم أن العدل في ذاته هدف وغاية ومقصد من مقاصد الشريعة، وهذا العدل أيضا وسيلة إلى غاية أخرى وهي تربية الإنسان الصالح الذي يؤمر بالعدل ويبتلى بتطبيقه لتصلح نفسه وتزكو أخلاقه. وهكذا يكون العدل غاية من جهة ووسيلة من جهة أخرى. غاية في نفسه فهو مطلب شرعي ووسيلة لتحقيق غاية أخرى وهو تكوين وإنشاء المسلم الصالح.
ج) فتح المجال للإحسان، واستغلال الطاقة:
مما وضعته الشريعة الحكيمة للوصول إلى الكمال الإنساني وتكوين الإنسان الصالح أنها فتحت الباب على مصراعيه للإحسان، وفتحت الميادين لإشغال الطاقة والموهبة ليصل الإنسان إلى نهاية الكمال المقدر في مجال العبادات وضعت حدوداً دنيا للطاعة وهو الواجب والفرض وهذا مما يدخل في طوق كل مكلف عادي إلا أصحاب الأعذار والضرورات، ولم تكتف بذلك بل فتحت المجال لإشغال النهم، والرغبة في الاستزادة من الخير، فلم تضع الشريعة حداً للأذكار (ذكر الله) قال تعالى {يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا..} (الأحزاب:41،42). وقال تعالى {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران:190). وقال تعالى في الحديث القدسي: [أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه] (رواه البخاري في التوحيد).
وقال صلى الله عليه وسلم: [من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد] (رواه مسلم).
وحددت حدوداً عليا لقراءة القرآن في ثلاثة أيام ولقيام ثلثي الليل ولصيام يوم وإفطار يوم وهذا غاية ما يستطيعه البشر، ومن زاد فوق ذلك كان هذا على حساب واجبات أخرى من حق النفس والزوج وأدى ذلك إلى ضعف البدن المؤدي إلى الفرار من الزحف والعجز عن حقوق الناس، وهذا إفراط في العبادة يؤدي إلى تفريط في جانب آخر. والخلاصة أن الشريعة فتحت مجالات التعبد لله على مصراعيها إشباعاً لعطش النفس وشوقها إلى بارئها وخالقها واستزادة من الصالحات، ووضعت حدوداً قصوى لا لكبت الطاقة، وتحجيم الخير وإنما للنهي عن الغلو والإفراط. كما أن الشريعة أيضا فتحت مجال أداء حقوق الناس، وخدمتهم فأمرت بالبر والإحسان إلى الوالدين، والأقربين وجعلت خير الناس خيرهم لأهله، وأمرت بالتسامح والعفو مع القدرة، ومجازاة السيئة بالحسنة، وأثابت على خدمة الناس والسعي في مصالحهم وكل ذلك كان بما يشغل الطاقة في البر والإحسان وينمي الموهبة، ويفتح المجال ليصل الإنسان إلى منتهى الكمال المقدر له وكل ذلك يصب نحو الهدف والغاية التي نحن بصددها، الإنسان الصالح.
د) وضع حدود دنيا للتعبد والأخلاق:
وإذا كانت الشريعة قد راعت الفروق الفردية وأفسحت المجال لأهل الفضل والمواهب ليتنافسوا في الخير ويتسابقوا في الإحسان فإنها أيضا وضعت حدودا دنياً جعلتها فروضا عينية واجبة على كل مكلف وذلك لتزكو أنفس الجميع، ويتطهر الكافة ويكون كل من دخل تحت مظلة الإسلام صالحاً في الحد الأدنى ففرضت للقيام بحق الله عبادات دنيا على كل مكلف كالصلوات الخمس في اليوم والليلة وصيام شهر واحد في العام وهو رمضان، وزكاة واجبة للأموال وحج واحد في العمر، كما فرضت في التعامل وجوب رد الجميل، ومقابلة الإحسان بالإحسان وأجازت الإساءة بإساءة مثلها، وأوجبت معاملة الناس على النحو الذي يحب الإنسان به أن يعامل هو.. وبذلك أوجبت الشريعة الحكيمة على كل إنسان أن يكون صالحاً ولو في الحدود الدنيا التي لا يجوز تجاوزها هبوطا إلى الإثم. وبذلك راعت الشريعة الإسلامية كل المستويات وصولا إلى الغاية التي قررتها وهي الوصول إلى المسلم الصالح.
ثالثاً: إقامة الأمة الصالحة:
الغاية الثانية من التشريع الإسلامي هي إقامة المجتمع الصالح وحتى نفهم هذه الغاية على وجهها الصحيح سنقسم البحث فيها على النحو التالي:
(1) مفهوم المجتمع الصالح.
(2) أدلة وجوب إقامة هذه الأمة الصالحة.
(3) التشريعات التي شرعها الإسلام لإقامة هذه الأمة.
(4) كيف أقيمت هذه الأمة قديما، وكيف تقام الآن.

(1) مفهوم الأمة الصالحة:
الأمة الصالحة التي نعنيها هنا هي الأمة القائمة بأمر الله سبحانه وتعالى المقيمة لحدوده، العابدة له. التي قد جعلت الدنيا مزرعة ومعبرة إلى الآخرة، والتي يتراحم أفرادها ويتعاطفون، وتتآلف قلوبهم وتجتمع جهودهم على محبة الله ورضوانه، ويكون دين الله ظاهراً بها، الأمة التي تكون فيها وبها كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
والمثال الذي هو أصدق مثال لهذه الأمة هو عهد النبوة والخلافة الراشدة (صدر الإسلام) ففي هذا العهد ظهرت هذه الأمة على أكمل صورة وأفضل مثال. ولذلك مدح الله سبحانه وتعالى هذه الأمة في ذلك العصر في آيات كثيرة منها قوله تعالى {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيماً} (الفتح:29). فمن صفات هذه الأمة أنهم متراحمون فيما بينهم أشداء على أعدائهم، قائمون بأمر ربهم ركوعا وسجودا. وجوههم تشرق بالنور من أثر السجود لخالقهم، وهم غيظ لأعدائهم، وبهجة ونور لأوليائهم. وقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا بجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فقال: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر] وناهيك بما كان في هذه الأمة من شوق إلى الآخرة وزهد في الدنيا، وتسابق وتنافس نحو البر والخير، فأي أمة هذه التي يحرم الرجل نفسه من طعامه وطعام أولاده ليطعم ضيفه، والذي ينفق الفرد فيها ماله كله في سبيل الله لا يدخر شيئا لولده. والذي يبايع الصحابة فيه رسول الله على الموت في سبيل الله وألا يفروا ولو كان العدو أضعافهم، والتي يتقاسم فيها المهاجرون والأنصار أموالهم، والتي يتآخى فيه الغرباء وأهل الوطن فيكونون في أخوتهم في العقيدة أفضل من أخوة الدم والنسب؟!.
ولا يعني وجود هذه الأمة أن تكون خالية من الجريمة ومن النفاق فمثل هذه الأمة الصالحة على طهارتها لم تكن خالية من المنافقين فقد كان هناك عدد كبير منهم، وكذلك لم يخل مجتمعها من الجريمة فقد كان هناك من زنى فرجم، ومن سرق فقطع، ومن غدر فجوزي بجنس عمله قطعا ليديه ورجليه وسملا لعينيه وكل هؤلاء من الذين استظلوا بمظلة الإسلام.
وأشهروا وأعلنوا إسلامهم، ولكن كان الشر هذا مستخفيا لا مستعلنا، واليد العليا لله ولرسوله، وللقائمين بأمره.
(2) أدلة وجوب إقامة هذه الأمة:
قد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على وجوب إقامة هذه الأمة. وعلى أنها قدر الله الذي لا يرد ومشيئته النافذة إلى يوم القيامة. ومن ذلك قوله تعالى {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} (الفتح:28).
ولا يظهر دين الله على الأديان كلها إلا بأن يكون مع النبي أمة قائمة بأمر الله مجاهدة في سبيله ولذلك قال تعالى لرسوله {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (الأنفال:62،63).
فمن سبحانه على رسوله بأن أيده وقواه بالمؤمنين الذين شرح الله صدورهم للدين، وأقامهم وحدة متآلفة حول الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات الدالة على وجوب إقامة الأمة أيضا قوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران:104). والآية هنا تأمرنا أن نكون أمة على هذا النحو.
ولما قامت هذه الأمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصفها الله بقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110).
ووعد الله هذه الأمة بالنصر والتمكين في الأرض فقال سبحانه وتعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور:55).
وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة على ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: [بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم] (صحيح الجامع رقم (2828)).
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: [إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها] (سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (2)).
وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستظل طائفة منها على الحق منصورة إلى قيام الساعة فقال: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] وقال أيضا: [حتى يقاتل آخرهم الدجال] (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (270)).
ومن محصلة هذه النصوص نرى أن هذه الأمة هي قدر الله الذي بشر به وأقامه سبحانه حيث صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده (وأقام أمة الإسلام القوية التي ملكت الدنيا شرقا وغربا والتي ظهر دينها على كل الأديان. وإن يكن قد أصابها ضعف في هذه الأيام الأخيرة فإنما كان بتفريطها في جنب الله.
(3) التشريعات التي شرعها الإسلام لإقامة هذه الأمة.
أسس إقامة الأمة الإسلامية:
وضع الله سبحانه وتعالى الأسس والقواعد التي يقوم عليها بناء أمة عظيمة كاملة ونستطيع أن نجمل هذه الأسس فيما يلي:
(أ) الدستور الثابت الدائم:
أول الأسس التي يقوم عليها بناء أمة الإسلام هو وضع دستور ثابت للأمة وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بهذا حيث أنزل كتابه (القرآن الكريم) ليكون نظاما وقانونا ودستورا ثابتا لا يتغير بتغير الأهواء والأنظمة والحكومات والأحزاب، وقد وضع الله أحكامه بنفسه وجعلها هدية منه وفضلاً وإحساناً لعباده وقد كفل هذا للمسلمين أن لا يكون نظام دولتهم من وضع بشر خطؤه أكثر من صوابه، وجهله أعظم من علمه، ولا يتجرد عن الهوى والعصبية لنفسه وعشيرته.
ولا شك أن المطلع على نظام العمران ودساتير الدول، يرى أن معظم الثورات والانقلابات والفساد في الأرض، ما نشأ ذلك إلا من الجهل بالتقنين والتشريع ومن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان هذا الظلم الذي ينشأ غالباً من القوانين الباطلة، والشرائع الجاهلية التي يشرعها الإنسان لنفسه، وليس هذا مجال بيان ذلك وبسطه وشرحه، وعقد المقارنة بين تشريع الله وتشريع غيره. والمهم هنا التنبيه على أن الأساس الأول الذي يقوم عليه بناء الأمة الإسلامية هو وضع دستور ثابت لها لا يتغير ولا يتبدل. ويعلم ما يصلح شأنه ويهدي مسلكه في هذه الحياة كما قال تعالى {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه:123). ولا نشك أن هذا الدستور بالرغم من أن المسلمين قد تجاوزوا معظم أحكامه في الوقت الحاضر إلا أنه ما زال هو السبب في الحفاظ على الشخصية الإسلامية ونظام الاجتماع الإسلامي.
فكيف لو ظل المسلمين ملازمين لتشريعاته وأوامره؟ إذا لكان النمط الإنساني الإسلامي المعاصر هو نفسه ذلك النمط والنموذج الفريد الذي كان في صدر الإسلام ولكان المجتمع الإسلامي المعاصر هو نفسه ذلك المجتمع الفريد الذي كان في عهد صدر الإسلام.
(ب) الأمة الإسلامية أمة العقيدة والهدف العظيم:
الأساس الثاني الذي أرساه الله سبحانه وتعالى لتقام عليه الأمة الصالحة هو بناء الأمة وفق معتقد واحد.
وجعل هذا المعتقد هو نقطة البداية في البناء، وكذلك هو نقطة النهاية في الغاية. وذلك أن الأمة الإسلامية تبنى أول ما تبنى حول عقيدة الإسلام، وعلى أساس من تحقيق غاية الخالق من الخلق، وهذه العقيدة التي جمع الرسول الناس أول ما جمعهم عليها هي توحيد الله سبحانه، والإيمان به، وتكريس النفس على عبادته وطاعته.
قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام:163). فكانت دعوة الرسول في بدايتها وكذلك في غاياتها هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكان اجتماع الناس وائتلافهم وبناء نظام حياتهم، وأسس اجتماعهم وفق هذه الغاية. فالعقيدة هي التي جمعت بين الأسود والأبيض، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والعربي وغيره، والنظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي كل ذلك بني وفق هذا المعتقد.
وتوجه المجتمع بكلية نحو هذا الهدف أيضا. بل كأن البناء كله إنما كان للدعوة إلى هذا الأمر. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110).
فكأن الله لم يخرج هذه الأمة إلا لتؤمن بالله وتدعو إليه وتأمر بالخير، وتنهى عن الشر.
وهكذا كان الأساس الثاني لقيام الأمة الإسلامية أن تكون أمة عقيدة واحدة ومبدأ واحد أظهره الله وهدى المسلمين إليه. وبهذا تفترق الأمة الإسلامية عن كل أمم الأرض المعاصرة تقريبا حين يقوم نظام اجتماعها وفق معايير شتى كالاشتراك في الوطن، أو الاشتراك في الأصل والجنس، أو الوقوع تحت القهر والظلم لبعض المتغلبين، أو الاجتماع من أجل الحياة وحدها والعيش فقط كما هو نظام الأمم الغربية والأمريكية الآن حيث يقوم نظام اجتماعها وبناء دساتيرها على الحياة وحدها فكأنهم أقوام يعيشون ويأكلون ويشربون ويمرحون، دون أن يكون هناك أدنى تشريع لمعتقد أو هدف سام شريف، أو غاية عظيمة إلا الاستمتاع بهذه الحياة، وتمضية الأعمار والأوقات. فنظام عمرانهم وحياتهم مؤسس فقط للحياة الدنيا الدنيئة. والدين لا يدخل في التشريع والهدف العام للدولة والنظام وإنما هو متروك لرغبة الأفراد وحرياتهم الشخصية. وهذا هو الفارق الأساسي اليوم بين أم الإسلام التي يجب أن يكون اجتماعها والتئامها وفق العقيدة وبين أمم الكفر المعاصرة التي لا تجتمع إلا على هذه الحياة الدنيا الصغيرة الفانية والتي تنتظر وراءها عذاب الله وسخطه وعقابه.
إن الغاية التي من أجلها ابتعث الله أمة الإسلام قد اختصرها أحد التابعين وهو ربعي بن عامر عندما قال لرستم الفارسي: (إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام). ولا شك أن هذه غايات سامية، ورسالة شريفة، يرخص في سبيل تحقيقها كل غال، ويهون كل صعب ويضحي من يعلم حقيقتها في سبيلها بالنفس والمال.
باختصار الأمة الإسلامية أمة عقيدة وهدف وغاية شريفة عظيمة وهذه نقطة البدء في تكوينها والمحور والمركز الذي يدور عليه نظامها. ويجتمع عليه شملها.
(ج) المسلمون جميعا أمة واحدة:
وأما الأساس الثالث الذي يقوم عليه نظام الاجتماع في الإسلام فهو أن المسلمين جميعا أمة واحدة، هدفهم واحد وصراطهم وطريقهم واحد ودستورهم واحد، وهم جميعا متساوون لا فضل بينهم إلا بالتقوى، ولا ميزة لأحدهم بسبب لون أو جنس أو وطن. وهذه الوحدة الجامعة هي أعظم مظهر من مظاهر الإسلام، وأعظم منجزاته وما يحققه على الأرض في الاجتماع البشري، فلم يوجد مجتمع متعاون متكافل متحاب بمثل ما وجد المجتمع الإسلامي ويستحيل تحقيق مثله على الأرض بأي نظام آخر ولا شك أن لهذه الوحدة الجامعة مقومات كثيرة أهمها العقيدة الواحدة، والصراط التشريعي الواحد، وإلغاء الفوارق والامتيازات الخاصة، وجعل التفاضل للتقوى والعمل الصالح، وجعل الإحسان والبر والصلة فرضا واجبا، بل وإلزام المعروف من رد السلام وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإكرام الضيف، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وتحريم أخذ أجر على الشفاعة، والشهادة، والكفالة لأنها حقوق مفروضة واجبة للمسلم على المسلم يجب أن يبذلها بغير أجر أو عوض، وكذلك تحريم كل ما يقطع الصلة بين المسلم والمسلم كالغيبة والهجران وإيذاء الجار، والفحش والتفحش، وصنع الفضل والإحسان الميسور، وتحريم الغش والنجش، والبيع على البيع، والخطبة على الخطبة، وأكل مال المسلم بغير حق أو بباطل كالقمار، والربا، والمقصود أن الشريعة المطهرة قد حرمت كل ما من شأنه أن يقطع صلة المسلم بأخيه المسلم كما أنها ألزمت وأوجبت كل ما يؤدي إلى ربط صلة المسلم بأخيه المسلم ومحبته له مما يستطيع المسلم بذله دون كلفة ومشقة كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم] (رواه مسلم).
والشاهد في هذا الحديث أن الرسول جعل الإيمان معلقا على المحبة ومن أجل ذلك شرع الله ما يحقق هذه المحبة ويقوي الصلة، وذلك لتكوين الأمة الصالحة المتماسكة القوية التي يصفها الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر] (رواه مسلم وأحمد).
(د) إيجاب النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأصل الرابع الذي أرساه الله سبحانه وتعالى لإقامة الأمة المسلمة هو إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق على كل فرد في الأمة كما قال تعالى: {والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. والتواصي بالحق التزام به، وإلزام للغير به كذلك، ولأن المسلمين أمة واحدة فإن الله أوجب على كل فرد فيهم أن يقوم بتقويم عوج الآخر ما وجد إلى ذلك سبيلا وذلك لتستقيم الأمة كلها على كلمة سواء وشريعة واحدة، ويلتزم الجميع بالحق قولا وعملا.
قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (التوبة:111). فانظر كيف جعل الله ولاية المؤمنين بعضهم بعضا في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وذلك لأنه من لوازم الموالاة والمحبة في الله، الدلالة عن الخير، والتحذير من الشر، بل الوقاية لا الدلالة فقط كما قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (التحريم:6).
فجعل الله سبحانه من محبة الرجل بأهله أن يقيهم النار، ولا يقيهم إلا بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامتهم على الحق. ومن أجل ذلك كله فرض الله على كل مسلم رأى منكراً أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه. كما قال صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] (رواه أحمد ومسلم (صحيح الجامع)).
ولا شك أن مجتمعا يتواصى أفراده بالحق على هذا النحو ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويراقب كل منهم الله في إخوانه كما يراقبه في نفسه، ويأخذون على يد السفيه منهم، ويأطرونه على الحق أطرا، لا شك أن أمة تفعل ذلك يستحيل أن يدب الشر بينهم، أو أن يتفشى الباطل، أو تستعلن الجريمة بل إنه يظل مجتمعا نظيفا أبدا طاهرا مطلقا مستقيما على الحق.
ولا شك أن هذا أصل عظيم للمحافظة على استقامة المجتمع الإسلامي وبقائه قائما على أمر الله سائراً في طريقه.
ولا شك كذلك أن الأمة ما ضلت إلا بعد أن فرطت في هذا الأصل العظيم، والذي هو أصل في البناء، وركن هام من أركان بقاء الأمة واستمرارها على منهج الله وطريقه وعلى عقيدة الإسلام. ولا شك أيضا أنه يستحيل أن تقوم الأمة جديدا إلا بإحياء هذا الأصل العظيم.
(هـ) الحفاظ على الضرورات الست:
الأصل الخامس الذي جاءت به الشريعة المطهرة لإقامة بنيان الأمة الإسلامية هو الحفاظ على الضرورات الست والتي لا بقاء لمجتمع وأمة إلا بالحفاظ عليها وهذه الضرورات الست هي: الدين، النفس، النسل، العرض، العقل، والمال. هذا تفصيل لمنهج الشريعة المطهرة على الحفاظ على هذه الضرورات.
أولاُ: الحفاظ على الدين:
الدين ضرورة للإنسان، لأنه لا نجاة للإنسان من عذاب الله وعقوبته إلا بالدين ولا فلاح له في الدنيا والآخرة إلا بأن يعرف ربه ويؤمن به ويعبده على النحو الذي شرعه سبحانه وتعالى وبدون الدين يكون الإنسان سائمة وحيوانا بل أحط؛ لأن الحيوان والأنعام قد خلقها الله لمهمة وهي قائمة بها تسخيرا وتذليلا من الله سبحانه وتعالى، وأما الإنسان فإنه خلق ليعبد الله اختيارا وطواعية فمن عبد الله فقد عرف مهمته وغايته ومن أعرض عن ذكر ربه فقد أعرض عن حياة نفسه وغاية وجوده، وبذلك كان أحط دركا من الحيوان. ولذلك قال تعالى:
{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف:179).
ولما كان الدين بهذه المثابة والأهمية فإن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الشرائع ما يحافظ على هذا المقوم الأساسي للفرد والأمة ومن هذه التشريعات:
أ) جعل الرضا والاقتناع هو سبيل الدخول في الدين، والنهي عن الإجبار والقهر كما قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة:256). وهذه آية مدنية من آيات سورة البقرة وهي نص واضح أنه لا يجوز إجبار أحد للدخول في الدين. وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، والآيات في هذا المعنى كثيرة مكية ومدنية كقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل:125). وقوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر} (الغاشية:22،24). وقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ}.
ولا يخالف هذا أمر الله سبحانه وتعالى بقتال العرب حتى يسلموا بعد نزول براءة وفيها قوله سبحانه وتعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (التوبة:5)، وذلك أن هذه الآيات في العرب خاصة الذين اختارهم الله لرسالته ونزل القرآن بلغتهم، وأعذر الله إليهم في البيان وظهرت لهم الحجة وشاهدوا معجزات النبي، وتحداهم الله أن يأتوا بمثل سورة واحدة من سور القرآن فعجزوا، وأمهلهم الله قبل نزول هذه الآيات عشرين سنة كاملة أو تزيد ولم يصبح لهم عذر بعد ذلك في الكفر، وإنما هو العناد فقط ولذلك أمر سبحانه وتعالى بقتالهم وقتلهم حتى يسلموا ويقيموا الصلاة والله سبحانه وتعالى يحكم في عباده بما يريد.
وأما غير العرب فإنه لا إجبار لأحد منهم في الدخول في الدين، وإنما الغاية فقط من قتالهم هي أن تكون كلمة الله هي العليا في كل الأرض وأن ينضووا تحت لواء الأمة الإسلامية وإن بقوا على كفرهم وشركهم ما داموا مسالمين دافعين للجزية المفروضة عليهم.
* والمهم هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل الدخول في الدين اختيارا حتى تطمئن له القلوب وترتاح له النفوس، ويدخل من يدخل فيه اقتناعا وحبا.
ب) قتل المرتد:
وشرع الله سبحانه وتعالى القتل للمرتد عن الإسلام وذلك حماية لجناب الدين، وحفاظا على هيبته، وقطعا لدابر المفسدين الذين يمكن أن يلجأوا إلى الدخول فيه لمعرفة أسرار المسلمين وكشف عوراتهم، ثم الردة بعد ذلك ولو لم يجعل تشريع قاطع لدابر هذا الفساد لأدى ذلك إلى خلخلة صفوف المؤمنين وهدم كيانهم، كما أراد اليهود في عهد النبي حيث يقول الله عنهم: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذين أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} (آل عمران:72).
وهذه خطة خبيثة أراد بها اليهود التشكيك في دين الرسول صلى الله عليه وسلم وتمزيق صف المسلمين، ولذلك جاء التشريع بقتل المرتد عاصماً من تلاعب المتلاعبين بالدين. فقال صلى الله عليه وسلم: [من بدل دينه فاقتلوه] وقال أيضا: [لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة] (رواه البخاري ومسلم).
ج) جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على كل مسلم:
ومما شرعه الله أيضا للحفاظ على الدين أن جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على كل مسلم ومسلمة كما قال صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان] (صحيح الجامع).
(ومن) هنا من صيغ العموم وتشمل الذكر والأنثى ولذلك قال تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}.
وهذا معناه أن تكون الأمة جميعا متضامنة متعاونة متحابة، آخذة على يد السفيه، مانعة أي انحراف عن الدين، وهكذا يكون الحفاظ على الدين مسئولية كل أحد في هذه الأمة. هذا إلى جعل تبليغ الدين، ونشر رسالته هي مهمة الأمة كلها. كما قال سبحانه وتعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110). وقوله سبحانه وتعالى أيضا: {ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران:104). وبذلك تعيش الأمة كلها لدينها وعقيدتها. بل قد جعل الله الموت في سبيل الحفاظ على الدين هو الشهادة والجائزة. كما قال صلى الله عليه وسلم: [من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله] (متفق عليه). ومعنى هذا أن من قاتل لغير ذلك فليس في سبيل الله.
* ولو ذهبنا نستقصي ما شرعه الله سبحانه وتعالى للحفاظ على الدين الذي هو المقوم الأول لحياة الفرد والأمة لتوسع الموضوع جدا. والمقصود هنا البيان والتدليل أن الشريعة الإسلامية قد رسمت أفضل السبل للحفاظ على الدين وصونه في الأمة وذلك لأن الدين هو الحياة والنجاة والفلاح، والكفر هو الموت والخسارة والبوار.
ثانياً: الحفاظ على النفس:
جعل الله النفس الإنسانية مخلوقاً مكرماً عنده، فآدم أبو البشر خلقه الله بيديه وأسجد له الملائكة، وفضل ذريته على كثير مما خلقه، ولذلك شرع الله من التشريعات ما يحافظ على النفس الإنسانية فقد جعل الله سبحانه وتعالى العدوان على النفس الإنسانية بالقتل جريمة كبرى بل لا أكبر منه بعد الشرك كما قال سبحانه وتعالى تعقيبا على قتل أحد ولدي آدم لأخيه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (المائدة:32). وقال أيضا سبحانه: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} (النساء:93). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لزوال السموات والأرض أهون عند الله من إراقة دم عبد مؤمن] (صحيح الجامع:4953).
وجعل حرمة العدوان على النفس واحدة فالمرأة كالرجل والطفل كالشيخ والغني كالفقير، وجعل سبحانه وتعالى القصاص عقوبة للعدوان على النفس بالقتل ردعا لهذه الجريمة، وجعل وأد البنات وهو ما كانت تزاوله الجاهلية الأولى من أكبر الكبائر، قال تعالى: {وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت} (التكوير:8،9). ولا شك أن العدوان على الجنين في بطن أمه بعد أن يتخلق وتنفخ فيه الروح كذلك لأنه بذلك يصبح نفسا إنسانية والعدوان عليه في البطن لا يختلف عن العدوان عليه بعد الولادة.
ولم يبح الله سبحانه وتعالى قتل النفس البشرية بعد أن تسلم إلا في جرائم محدودة، وأما الكافر فإنه لم يبح قتله وقتاله إلا إذا كان محاربا معتديا فقط، وجعل سبحانه وتعالى أولاد المشركين ونساءهم ومن لم يحارب منهم معصوم الدم.
وهذه التشريعات جميعا للحفاظ على النفس البشرية التي خلقها الله مكرمة وخلقها لمهمة عظيمة قد أسلفنا بيانها فيما مضى.
ثالثاً: الحفاظ على النسل:
وأما المقوم الثالث من المقومات للمجتمع الصالح والأمة الصالحة فهو النسل؛ ولا نعني بكلمة النسل هنا مجرد الولادة والإنسان لأن للإنسان ميزة خاصة عن سائر الحيوانات في النسل وهو صلات القربى التي تسمى في الشريعة بالأرحام فالأبوة والبنوة والأخوة والأمومة والعمومة والخئولة.. هذه الصلات التي تقوم بين أبناء الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة؛ ثم القبيلة ثم الشعب؛ هي التي يتوقف عليها وجود أمة صالحة: يترابط أفرادها. وكذلك وجود فرد صالح تنمو فيه المشاعر الإنسانية كالرحمة والفداء، والعطف، والشعور بالمسئولية، نحو الآخرين. ويظهر هذا جليا فيما لو تصورنا نسلا إنسانيا لا يقوم على أساس الزواج الشرعي، وإنما عن طريق الإنجاب والشيوعية الجنسية، حيث ينشأ الطفل لا يعرف أباً بعينه ولا أماً ولا أخاً ولا عماً ولا خالاً. إن مثل هذا النسل ينشأ مبتوت الصلة عن العواطف والمشاعر فهو لا يعرف الشعور بالحب نحو الأب والأم ولا يشعر بشعور التراحم والتكافل الذي ينشأ بين الإخوة والأخوات ومع الأعمام والأخوال.. الخ ولذلك فالنسل الذي نعنيه هنا والذي هو قوام الأمة الصالحة التي يبتغي الإسلام إنشاءها هو النسل الذي شرع الله له من التشريعات ما يجعله نقيا نظيفا طاهرا ولذلك شرع الزواج وحرم السفاح والزنا، وجعل للزواج شروطا لا تصح إلا به ومن ذلك تحريم مجموعة من النساء الذين يدخلون في دائرة الأرحام وهن الأم والبنت والأخت والعمة والخالة، وبنت الأخ وبنت الأخت وأم الزوجة وبنت الزوجة، وما يحرمه الرضاع وهو يماثل ما يحرمه النسب، لقوله صلى الله عليه وسلم: [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب].
وهكذا شرع الإسلام طريقا سليما لنسل نظيف يعرف الإنسان فيه نسبه ونسبته، حتى لا يكون الإنسان في المجتمع والأمة رقما من الأرقام كما هو الحال في مزارع الدواجن والبهائم.
وقد شرع الإسلام عقوبات زاجرة شديدة الزجر فجعل الرجم عقوبة للزاني المحصن (هو الذي سبق له الزواج) والجلد عقوبة للزاني البكر كما جاء في حديث عبادة بن الصامت في مسلم: [خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام].
وشرع أيضا ربنا سبحانه وتعالى عقوبة رادعة لمن ينشر جريمة الزنا عن طريق سب الأشخاص أو اتهامهم بالزنا لما في ذلك من تعريف للغافل وهدم لسمعة النظيف الطاهر فقال سبحانه وتعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} (النور:4).
وهكذا قطع الإسلام الطريق على الفساد الأخلاقي الذي يؤدي إلى انتشار الزنا، وكثرة أولاد السفاح وكل ذلك لإنشاء الأمة ذات النسل النظيف الصالح.
وناهيك بما شرعه الله سبحانه وتعالى سدا لذريعة الزنا من إيجاب الحجاب، وإيجاب الاستئذان قبل الدخول، وتحريم الخلوة بالأجنبية وسفر المرأة دون محرم وغير ذلك مما شرعه الله سدا لذريعة الزنا. وكل ذلك من أجل الحفاظ على النسل.
رابعاً: الحفاظ على العرض:
جاءت الشريعة أيضا بالحفاظ على العرض، والمقصود بالعرض هنا هو النفس المعنوية للشخص، فكما حافظت الشريعة على النفس المادية وحرمت العدوان على الدم كما مضى في (ثانيا) فإنها جاءت أيضا بالحفاظ على نفس الإنسان المعنوية وهي سمعته، وكرامته وعرضه، فجعلت سباب المسلم فسوقا، وحرمت الغيبة والنميمة، والغمز واللمز، والطعن في الأنساب، وتفاضل الناس في اللون أو الموطن أو الجنس وجعلت العقوبات على التعدي على هذه الأمور عقوبات تعزيرية متروكة لحكم الحاكم واجتهاده، وذلك ليقرر فيها العقوبة المناسبة ولكن الشريعة فرضت عقوبة وحدا مقررا منصوصا عليه في القرآن والسنة، وهو حد القاذف وهو الذي يتهم غيره بالزنا. قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون} ولا شك أن حكم قذف المحصن كحكم قذف المحصنة لأن كلا من الرجل والمرأة يتضرر سمعته بذلك، وقد قام الإجماع على أن المرأة والرجل سواء في هذا الحكم ولا شك أن الحكمة من مشروعية حد القذف هي الحفاظ على الأعراض حتى يعيش الفرد في مجتمعه المسلم آمنا على عرضه.
كما يجب أن يأمن أيضا على دينه، ونفسه، وماله. ولا ينافي ذلك أن حد القذف للحفاظ على النسل إذ هو للأمرين معا الحفاظ على النسل سداً للذريعة، والحفاظ على العرض بالأصالة، وحد القذف أيضا يشمل الشهود الذين يشهدون بالزنا على شخص ما دون أن يكونوا أربعة مجتمعين فلو أن ثلاثة شهدوا بالزنا ولم يأتوا برابع معهم فإنهم يحدون حد الفرية. وكذلك يشمل هذا الحد من قذف المحدود في الزنا أيضا، ومن قذف ولد الزنا علما بأن هؤلاء قد يكونون صادقين فيما قالوه ولكن لقطع قاله السوء، ودابر الشر فإن الشريعة الحكيمة قد جاءت بالعقوبة لكل هؤلاء.
وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بما يحافظ على الأعراض، ويصون كرامة الأشخاص رجالا كانوا أو نساء، وكل ذلك من أجل إقامة الأمة الإسلامية والمجتمع المسلم النظيف الطيب وقد عرفنا أن هذه غاية من غايات التنزيل السماوي.
خامساً: الحفاظ على العقل:
والضرورة الخامسة التي جاء الإسلام بالحفاظ عليها هي ضرورة العقل. ونعني بالعقل هنا هذا السر الدخولي في الإنسان الذي يملك به التمييز ويفهم به الأشياء ولا شك أن مكانه القلب، وإن كان المخ هو مكان تجمع المعلومات واتصال كافة الأحاسيس قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف:179).
وعقل الإنسان يضيع بالسكر، ويتعطل به، ولذلك سمي المسكر خمرا لأنه يخامر العقر ويستره. ولذلك جاءت الشريعة الحكيمة بتحريم شرب الخمر لما يؤدي إليه شربها من ستر العقل وتغطيته، وذلك حفاظا على هذه الحاسة الجليلة والسر والعظيم الذي أضحى به الإنسان إنساناً، فشرعت لذلك عقوبة رادعة وهي الحد أربعين جلدة (على الراجح والصحيح) وحرمت كل سبيل يوصل بها إلى الخمر كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله لعن في الخمر عشراً: زارعها وعاصرها، ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليها، وساقيها وشاربها]. وحرم كذلك كل ما يفتر العقل كما جاء في الحديث: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر] (رواه الإمام أحمد وانظر صحيح الجامع (6854))، وهذا يدخل فيه كل ما يخدر الجسم وينيم العقل والإحساس. وكل ذلك ولا شك للحفاظ على العقل الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة.
* وأما العقل الذي هو ملكة الفهم، وقواعد الإدراك فإن الإسلام قد جاء أيضا بما يحافظ على سلامة الفهم فنهى عن نشر الخرافات والخزعبلات، والأوهام وأمر أن يطالب كل أحد بدليل ما يقول. ونهى عن السحر والكهانة وادعاء علم الغيب، والاتصال بالجن وكل ما من شأنه أن يشوش الفهم السليم، ويصرف العقل عن مساره الصحيح. وفرض في بعض هذه الأمور عقوبات رادعة، وإن كان بعضهما يدخل في باب الحفاظ على الدين، لأن بعضا منها قد يؤدي إلى الردة والكفر ومعلوم أن حد الردة قد شرع حفاظا على الدين.
سادساً: الحفاظ على المال:
المال قوام الحياة ولا قيام لإنسان ولا بقاء له إلا بالمال فهو الطعام والشراب والسكن والعدة والعتاد. وقد وصفه الله بذلك فقال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} (النساء:5) فالمال قوام الحياة.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى من التشريعات ما يكفل الحفاظ عليه، وتنميته بكل وسيلة صالحة، فأباح الله للمسلمين أن ينموا أموالهم بالزراعة، والصناعة، والرعي، وإحياء الموات واستخراج المعادن، والصيد، والتجارة، والإجارة، والمشاركة والمقارضة، ووضع التشريعات التي تكفل تنظيم كل ذلك حتى لا يطغى شريك على شريك، ولا عامل على صاحب عمل، والعكس، ولا البائع على المشتري والعكس، ولا المستأجر على المؤجر والعكس وكل ذلك في نظام تشريعي يكفل العدل وتوزيع الثروة، وقيام الحافز وشحذ الهمة للربح والعمل.
• كما جعل للفقراء نصيبا في مال الأغنياء بالصدقة والزكاة حتى يتم التكافل والتحابب والتعاون، وتسد خصلات الناس جميعا.
• ونهى سبحانه عن كل من شأنه أن يكون أكلا لأموال الناس بالباطل كالرشاوي والقمار، والرهان، وحرم الربا لما يجر من فساد في المجتمع بحيث يجمع الثروة في أيدي طائفة من المرابين الرأسماليين فقط، والربا لا شك أنه مصدر الكوارث الاقتصادية والفساد الاجتماعي هذا في باب تنمية المال بالطرق المشروعة وتحريم الكسب الخبيث.
• وأما ما شرعه الله سبحانه وتعالى للحفاظ على المال، فكثير جدا، فمن ذلك سن الله سبحانه حد السرقة ليكون هذا رادعا عن العدوان على المال الخاص أو العام ولا يخفى ما للسرقة من هدم للثروات. لأنه بانتشار السرقة يحجم الناس عن إخراج المال للعمل والاستثمار، وينفق الناس كثيرا من الأموال في الحراسة هذا إلى ما للسرقة من هدم للمجتمعات وإشاعة للخوف بين الناس ولذلك كانت العقوبة الشرعية لجريمة السرقة وعقوبة زاجرة رادعة وهي قطع اليد، وجاءت الشريعة بما هو أشد من ذلك أيضا وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف وذلك لمن يتجرأ على قطع الطريق وإخافة السبيل وذلك لما لهذا من آثار مدمرة على اقتصاد الأمة حيث يمنع الناس من السفر بأموالهم والضرب في الأرض للتجارة. قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (المائدة:33).
ولم تكتف الشريعة المطهرة بسن هذه العقوبات الزاجرة فقط حفاظا على المال بل منعت أيضا من تمكين السفيه للتصرف في المال من أجل صغره أو من أجل عقله كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم} (النساء:5).
ونهى سبحانه وتعالى عن الإسراف والتبذير كما قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} وقال تعالى أيضاً: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}.
وهكذا نجد أن الشريعة الكاملة المطهرة قد جاءت بالحفاظ على المال بكل سبيل، وتنميته بكل طريق صالح وحمايته من الضياع أو السرقة. وذلك لأن المال قوام الحياة.
الخلاصة:
هذه باختصار المقومات الست التي جاءت الشريعة الإسلامية بالحفاظ عليها حفاظا وإقامة للأمة الصالحة التي هي هدف من أهداف الرسالة السماوية والتشريع الإلهي. وخلاصة ذلك أن الشريعة التي أرست أساس الأمة الصالحة وذلك بأن جعلت لهذه الأمة هدفا ساميا وعظيما في الحياة وهو القيام بعبادة الله وحده سبحانه الذي هو غاية الوجود فجعلت تصورها للرب، والكون والحياة واحدا، ورسمت لها شريعة واحدة في كل شئون الحياة ليكون عملها واحدا وصراطها في هذه الحياة صراطا واحدا. وجعلت محبة المسلم للمسلم فرضا، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم] (رواه مسلم). وشرعت من التشريعات ما يجعل المؤمنين متوادين متراحمين كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وحرمت الفرقة والخلاف بكل سبيل ووضعت عقوبات زاجرة لكل من اعتدى على مقوم من مقومات الحياة الأساسية وهي "الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعرض، والعقل، وبذلك كفلت للمسلم الذي يعيش في وسط الأمة الإسلامية المطبقة لشريعة الله أن يكون آمنا على دينه ونفسه وماله ونسله، وعرضه وعقله" وبذلك يعيش الناس السعادة الممكنة والمستطاعة على هذه الأرض وهذا ولا شك ثمرة معجلة من ثمار الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
قال جل وعلا: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
والحياة الطيبة هي الحياة في ظل مجتمع يطبق شريعة الله كما أنزلت ويكون الفرد فيها عضوا من أمة الإسلام العظيمة التي أخرجها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس.
(4) كيف أقيمت هذه الأمة قديما، وكيف تقام الآن.
من أين نبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* بعد هذا العرض السريع لمقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها في الحياة يسهل علينا معرفة نقطة البدء في تطبيق الشريعة الإسلامية وهي باختصار: البناء. إن أول عمل يجب علينا فعله أن نبني الفرد الصالح، والأمة الصالحة، قبل أن نشرع في الهدم. وذلك أن البناء القائم الآن فاسد لا شك فمعظم أفراد الأمة لا تنطبق عليهم مواصفات المسلم الصالح ومعظم نظم الأمة وقوانينها تخالف الإسلام، ولا شك أن البدء بالهدم وملاحقة الفساد سيحول المصلحين إلى جلادين ويحول الحكومة الإسلامية إلى حكومة بوليسية عسكرية وليس إلى حكومة ربانية إسلامية.
يجب علينا أولا إرساء العقيدة، وبناء التوحيد، وغرس الإيمان في القلوب والنفوس، وهدم معابد الشرك والوثنية، وعبادة غير الله، وجمع الأمة على كلمة سواء كما قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
يجب علينا إقامة بناء الدين أولا بالدعوة إلى الصلاح وعمارة المساجد، وأداء الزكاة، وبذل الخير والمعروف، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم، وتأمين الناس على دينهم ودنياهم.
يجب على أي حكم يريد أن يطبق الإسلام أن يكون أول تشريع له في التربية.. أن يعتني بالمدارس، ويضع المناهج الصالحة،ويرفع من شأن المدرس والمربي، وأن يغرس في النشء الجديد الانتماء إلى أمة الإسلام، والاعتزاز بتراث المسلمين، والفخر بأنه مسلم.. هذا هو أول عمل يجب أن يقوم به أي حاكم يريد أن يطبق الإسلام، يجب فرض الزكاة، ونشر المحبة، والصلة بين الناس، والتخلي عن الامتيازات الجاهلية التي يجعلها النظام الجاهلي للسلطان من ألقاب الجلالة والفخامة، والسمو والعظمة، ومن امتيازات سلب أموال الناس بالباطل، والعدوان على المال العام للأمة والتصرف فيه كأنه مال أبيه وجده.
هذه نقطة البدء، في بناء أمة، وذلك هو مراد الرب سبحانه وتعالى ومقصد الدين والتشريع لبناء الإنسان الصالح، والمجتمع الصالح.
فهل يبدأ المصلحون من هذا المنطلق؟ وهل نعمل جميعا من أجل مراد الله؟ اللهم وفقنا إلى ذلك إنك أنت السميع المجيب.
******************
*********
****


Google+

شارك إعجابك بالموضوع --» 

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للشريعة, الإسلامية, المقاصد, العامة


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع الأقسام الرئيسية مشاركات المشاركة الاخيرة
المواصفات الميكانيكيا العامة للمشاريع qjjiijiqjiij قسم الهندسة الميكانيكية 2 05-04-2017 10:39 PM
العقاب بالضرب في التربية الإسلامية اسكن عيونى استراحة المهندسين 0 11-16-2015 02:24 PM
المواصفات العامة كاملة لتنفيذ المبانى وزارة الاشغال العامة والاسكان السعودية عبده الشاعر قسم الانشاءات الكهربية 89 11-23-2014 11:17 AM
التمديدات الصحية فى المبانى العامة qjjiijiqjiij قسم الهندسة الميكانيكية 0 09-11-2014 05:54 PM
الشروط العامة لتراخيص التوزيع qjjiijiqjiij قسم خطوط النقل والتوزيع:: الكابلات الارضيةوالخط 0 01-16-2013 04:01 PM


الساعة الآن »06:51 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.7.5
.Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
3y vBSmart
F.T.G.Y 3.0 BY: D-sAb.NeT © 2011